عظة من الأدب الروسي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
اسمعْ يا إسرائيل. الربُّ إلهُنا ربٌّ واحد. فتحبّ الرب إلهَك من كلّ قلبِك ومن كلّ نفسِك ومن كلّ قوّتِك. ولتكنْ هذه الكلمات التي أنا أوصيكَ بها اليوم على قلبِك. وقصَّها على أولادك وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحن تنام وحين تقوم. (تثنية 4:6-7)
لدى الأهل أفكار وهموم كثيرة نحو أبنائهم، وأي أهل لا يريدون أن يروا أبناءهم يصيرون مسيحيين أبراراً وأفراداً مفيدين في المجتمع؟ لكن ما هي الوسيلة الأفضل والأكثر ثقة لتربية الأولاد ليكونوا على هذا النحو؟ الوسيلة، يمكن القول، هي في يد الأهل أنفسهم: في مثال أبوي جيد.
أحد البراهين الكثيرة عن التأثير الإيجابي للمثال الأبوي الجيد موجود في حياة الشهيد القديس جوليان الذي تعيّد له الكنيسة في الحادي والعشرين من حزيران. لقد وُلد لأبوين شريفين ووالده كان وثنياً فيما أمه كانت مسيحية. بعد موت والده، أخذته أمه التي كانت تدرك أهمية مسؤوليات الأم وقداستها وراحت ليسكنا في مدينة تارس حيث عاشت حياة هادئة معتزلة عن الناس مكرّسة كل قوتها لتربية ابنها.
وكمسيحية عرفت أن الصلاة هي المنارة المقدسة والمباركة التي تضيء السبل الصحيحة وتظهرها في هذه الحياة. لهذا عملت كل ما في وسعها لإنارة هذه المنارة في قلب ابنها. فالولد يتأثر كثيراً بكلمات أمه الصادرة من القلب وبتوجيهها الحسن الكريم والمتواضع. لكن أم جوليان لم تحدّ نفسها بهذه الوسائل بل جاهدت لتؤثّر فيه بمثالها أيضاً. ما أن كان ينزل الظلام على المدينة ويخمد ضجيج النهار من الشوارع ويمضي الناس للنوم، حتى يظهر ضوء قنديل الزيت المرتجف في البيت الأرملة التقية المتواضع. لقد كان تصلّي مع سجدات وتنظر إلى أيقونات المخلص ووالدة الإله. لقد كان إيمانها ومحبتها يلمعان على وجهها فيما كانت تهمس كلمات الصلوات والدموع تنهمر من عينيها المملوءتين بالإيمان. هذا وابنها الصغير يشدّ نفسه بحرارة إليها. نظرته الفضولية كانت تتنقل بين الأيقونات المقدسة ووجه أمه المصليّة بجهد. لقد امتصّ سمعه الحسّاس كلمات أمه وشَعِر قلبه الرقيق، الذي كان أصلاً قد أحسّ بالقداسة، بأهمية هذه الدقائق الصلاتيّة وعذوبتها.
مضت السنوات وكبر الصبي جوليان وهو يتنفس التأثّر بمثال أمه التقية، وصار رجلاً باراً ذا إيمان عميق. في ذلك الحين هبّت عاصفة عظيمة على المسيحيين وتعرّضوا لاضطهاد رهيب على يد الامبراطور ديوكليتيانوس. مع كثيرين غيره من الشهداء، احتُجِز ذو الثمانية عشرة سنة جوليان للتحقيق ورُمي به في الزنزانة. حاول مضطهدوه أن يجعلوه ينكر المسيح عن طريق التظاهر باللطف ومن ثم باللجوء إلى التهديدات. ومع هذا، فإن نار الإيمان اشتعلت بقوة في قلب الشاب ومنارة الصلاة سطعت لامعة. لم يحسّ بأي خوف من الزنزانة مع كل ما فيها من الأهوال وكان ينظر بهدوء إلى الموت الذي يقترب منه كما إلى سماء زرقاء صافية. في النهاية، ربطه معذبوه المغتاظون داخل كيس ملئوه بالرمل والقذارة ورموه في نهر. حملت الأمواج جسد الشهيد القديس إلى الضفة حيث وُجد ودُفن. وبعد هذا الوقت بقليل استُشهدَت أمه التقية.
يا لقوة المثال الجيد اللافتة للنظر التي كانت لهذه الأم: الشاب ذو الثمانية عشرة المملوء حيوية ونشاطاً أخذ في قلبه بشكل كامل صورة المسح المقدسة وصار ممتلئاً بالإيمان الإلهي، حتى أنه عند قمة حياته تخلّى عن كل الملذات الدنيوية والرغبات مستبدلاً إياها بالعذاب من أجل اسم المسيح مفضّلاً ذلك على نكرانه. وهو بهذا مات ميتة شهيد واستحق إكليل القداسة.
أيها الآباء والأمهات المسيحيين! أنتم بلا شك تتمنون أن ينشأ أولادكم كمسيحيين أبرار. لهذا، اتّخذوا في قلوبكم بشكل كامل مثال أم جوليان وجاهدوا دوماً على اتِّباعه. لقد علّمت ابنها من خلال مثال إيمانها وصلاتها. لهذا، في أيام العيد أو يوم الرب انتبهوا للمناسبة وأسرعوا إلى الكنيسة للصلاة المشتركة وقفوا هناك بورع واتخذوا في قلوبكم الصلوات والأناشيد. فليتعلّم أبناؤكم الذين معكم من جديتكم في الصلاة. في أيام العمل، في تهيئتكم لعمل النهار، لا تنسوا أن تبدؤوا نهاركم بالصلاة، تقفوا أمام الأيقونات وتتلوا صلاتكم عالياً. فليقل معكم أبناؤكم صلواتهم. في نهاية نهار الأعمال والاهتمامات، عندما يحلّ الظلام لا تنسوا أن تصلّوا مع أولادكم.
إذا توهّجت وجوهكم بنور الإيمان والصلاة لربنا، فهذا النور سوف ينعكس في قلوب أولادكم الفتيّة. إذا تألّقت وجوهكم بالحنان الإلهي المصلّي فإن أولادكم سوف يمتلئون به أيضاً. تذكّروا دائماً أنهم لن ينسوا زاوية الأيقونات العائلية حيث وقفوا بفرح وببراءة أمام أيقونة مخلصنا بجانب أهلهم المحبوبين وتلوا صلاتهم. هذه لحظات مشرقة فعلاً وسعيدة من حياتهم سوف لن ينسوها.