ولعل سائلاً هنا يسأل مستغرباً: لِمَ لا يكون كافياً أن يحبّ المرء قريبه؟! لِمَ علينا أن نحبّ الله أولاً؟ لِمَ يستحيل على الإنسان أن يحبّ قريبه ما لم يحبّ الله أولاً؟
الجواب هو أن الإنسان لمّا انفكّ رباطُه بالله، في المعصية، لم يعد قادراً على أن يحبّ. فالله هو المحبّة ومَن يزوّدنا بالمحبّة ولا محبّة من دونه. فإذ انقطع الإنسان عن الله انقطع عنه تيّار المحبّة. صار عابداً لنفسه، طالباً ما لنفسه، لا يمتدّ صوب الآخرين إلا ابتغاء ما لنفسه في الآخرين. محبّته للآخرين صارت تتحكّم بها، بمقادير، محبّته لذاته. الآخرون صاروا إليه أدنى إلى الأدوات. لم تعد لديه القوّة على المحبّة الصافية. صارت محبّته عكرة. أضحت فردوساً مفقوداً. بالمعصية خرج آدم من فردوس محبّة الله. صارت المحبّة مفتقدة. لكن الشوق إليها بقي عميقاً في الذاكرة، مغروزاً في قلب الإنسان. في إيقونة طرد آدم وحوّاء من الفردوس يصوَّران وهما يُخرَجان وأعينهما على الفردوس دامعة. هكذا أضحى الإنسان يبكي المحبّة كل أيام حياته. يطلبها، يغنّيها فلا يجدها. ليس همّ شغل أغاني الناس أكثر مما شغلها الحبّ. كل يطلب أن يُحَبَّ وليس من يُحِبّ. أمواج الحبّ في نفوس العباد دائماً ما تتكسّر على صخور أنانيات الناس. كل يشتاق إليها وليس مَن يعطيها. لذا سادت الخيبة والإحباط. أضحت المحبّة أدنى إلى الوهم والخيال. عاش الإنسان في لعنة الطرد من الفردوس كل أيام حياته. جوهره قلب ولا يستطيع أن يحبّ بمعنى الكلمة. لذا أضحى، في عمق كيانه، لا أقول إنساناً فاقد الإنسانية بل إنساناً ناقص الإنسانية.
لا شيء يُعيد المحبّة للناس، محبّتهم لبعضهم البعض، إلاّ إذا تابوا إلى ربّهم. بعودة الإنسان إلى ربّه يعود تيّار المحبّة ليوصَل به، ليُشعّ في قلبه من جديد. إذ ذاك تنساب المحبّة انسياباً بين الناس. تدفق دفقاً لتجمع إلى واحد، لتوحّد الإنسان بقريبه. إذ ذاك كل يتنفّس محبّةً لأخيه كنفسه. بلى، الله هو الحبيب ونبع المحبّة معاً. لذا قيل "الله محبّة". في هكذا إطار نفهم، هنا وهناك في الكتاب المقدّس، بعض ما قيل في شأن المحبّة كمثل القول "المحبّة هي من الله وكل مَن يحبّ فقد وُلد من الله ويعرف الله" (1 يو 4: 7). على هذا يدعونا الحبيب يوحنا لأن "يحبّ بعضنا بعضاً" (1 يو 4: 7). ودونكم قول آخر: "نحن نحبّه لأنه هو أحبّنا أولاً" (1 يو 4: 19). هذه المحبّة هي إيّاها التي طلبها الربّ يسوع في الصلاة الكهنوتيّة، في يوحنا 17، لتقيم فينا لما خاطب أباه السماوي هكذا: "أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك. أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني، وعرّفتهم اسمك وسأعرّفهم ليكون فيهم الحبّ الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" (يو 17: 25 – 26). المحبّة التي يتعاطاها الآب والابن فيما بينهما هي ذاتها التي أعطانا إياها الربّ يسوع من عند الآب لتكون فينا وليكون الجميع، على حدّ قول السيّد، "واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني" (يو 17: 21).
غاية الوصيّة
هذه المحبّة بالذات، اقتناء هذه المحبّة بالذات هو القصد، هو المبتغى، هو الغاية. "وأما غاية الوصيّة فهي المحبّة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء" (1 تيمو 1: 5). غاية الوصيّة، غاية كل الوصايا هي المحبّة. كيف نعرف أننا قد عرفنا الله؟ كيف نعرف أننا نحبّ الله وأن محبّته مقيمة فينا؟ الجواب يطالعنا به يوحنا الحبيب في رسالته الأولى: "بهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه. مَن قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحقّ فيه. وأما مَن حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكمّلت محبّة الله. بهذا نعرف أننا فيه" (1 يو 2: 3 – 5).
معرفة الله، أن يعرف أحدنا الله معناه أن يحبّ الله، أن يكون الله فيه وهو في الله. هذه المعرفة، هذه المحبّة تتأتى، إذاً، من حفظ الوصيّة. "إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). بحفظ الوصيّة نعرف الله وبحفظ الوصيّة ندخل الحياة الأبديّة كما قلنا في مطلع حديثنا. هذا لأن المحبّة هي فحوى الحياة الأبدية. "نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحبّ الإخوة. مَن لا يحبّ أخاه يبقى في الموت" (1 يو 3: 14). وأيضاً "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3).
[b]