إيمّا غريّب خوري
"هذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطًا مضجعًا في مذود" (لوقا 2: 12) عندما شاء المسيح أن يتجسّد في طفل، برزت الطفولة مع إمكانيّاتها وطاقاتها إلى الواجهة، وبرزت أيضًا مشاكلها وكيفيّة التعاطي معها، وتسلّطت الأضواء على القوّة الدفينة فيها التي إن لم تتفجّر إيجابًا تنطفئ. لا بل تندفن إلى الأبد أو تنفجر سلبًا على العائلة والمجتمع. وجود طفل بيت لحم في المذود في حالة فقر وتجرّد هو درس بحدّ ذاته، والمثلّث القاتم العميق حيث هو مَرمي في رسم الأيقونات، إشارة إلى عجز الطفولة عن الدفاع عن نفسها. إنّها ضعيفة، سريعة العطب، تنظر بخوف إلى ما ينتظرها في عالم البالغين...
قرأت، في عدد من صحيفة "الفيغارو" الفرنسيّة بتاريخ 17 تشرين الأوّل 2001، أنّ مليون طفل يُستثمرون ويستغلّون جنسيًّا في آسيا، في تجارة الدعارة والجنس. أمّا المذنبون أو بالحري المجرمون، وغالبيّتهم من أثرياء الغرب، يجتاحون تلك البقعة من الأرض في إطار سياحة وتنزّه، ولا من يعاقب ولا من يردع! كيف نستطيع أن نهدأ بعد قراءة مثل هذه الأخبار؟ كيف تُحلّ هذه الأزمة المستعصية؟ كيف نستطيع أن نُضمّد جراحات تلك الطفولة البائسة المقهورة، المغلوب على أمرها المعتدى عليها ولا وسيلة لها لمهاجمة الكبار والدفاع عن نفسها ضدّ أشخاص لا يبحثون إلاّ عن إشباع غرائزهم الحيوانيّة؟ ألم يخجلوا من تلك العيون البريئة المتطلّعة إليهم مجفاة تتساءل ماذا يجري لها ولماذا؟ تتساءل لماذا تُجرّح في أجسادها وتُهشّم في كرامتها؟ والسبب الأوّل لهذا الظلم هو الفقر والحرمان بينما العالم الغنيّ ينعم بالخيرات والتخمة! فقر ناتج من الأزمة الاقتصاديّة المتفاقمة التي لا ترحم أحدًا وتحرم البشر من لقمة العيش والطمأنينة.
الطفولة مسؤوليّة بين أيدينا يجب أن نعيها في غمرة الميلاد إذ ينادينا طفل المذود لكي نلتفت إلى مشكلة الولد التعيس الذي لم يطلب أن يولد ويأتي إلى العالم بل وجد فيه رغم إرادته. لم يُسأل رأيه عندما وجد في بيئة الفقر ليذوق المرارة والألم والضياع وليحتمل شراسة حروب الأقوياء بمعدّاتهم الفتّاكة! كم يعاني هؤلاء الأولاد من الرعب والذعر في ليالي الغارات البغيضة... فما ذنبهم لتحمّل تلك المآسي؟ تلك الطاقات التي زُوّد بها الطفل لكي تتفجّر خيرًا ونموًّا وعلمًا وثقافة، تتفجّر شرًّا وحقدًا وأذى، لأنّ الطفل الذي ينمو في مثل هذه الظروف وتلك البيئة الحزينة يتملّك قلبه حبّ الانتقام إذ يريد عندما يكبر أن يؤذي بلا رحمة كما تألّم هو وتعذّب بلا رحمة...
تلك الأرواح التي تسلّمناها واؤتمنّا عليها، يجب أن نحافظ على نموّها كحدقة العين، ونوجّهها باستمرار نحو الخير ونستفيد من تلك الحقبة التي تتّصف بالطراوة والنداوة لكي ننقش فيها كلّ ما يفرضه الضمير الإنسانيّ الحيّ، وكلّ ما يطلبه المسيح الذي لم يعط شريعة ولا ناموسًا لتربية الطفل بل عالج الأمور من جذورها عندما رفع راية المحبّة التي هي من لدن اللَّه، فقال بكلّ بساطة "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم فلمثل هؤلاء ملكوت السموات" (مرقس 10: 16). والكلمة المهمّة هي: لا تمنعوهم، والمنع يكون بسبب سوء التصرّف بحدّ ذاته والإهمال وعدم الاكتراث بالناحية الروحيّة. هذا برنامج تربويّ بحدّ ذاته وإن استجبنا نحن إلى هذه الدعوة فنشير إلى الدرب التي تؤدّي إلى الإنجيل وندفع بالأولاد إلى ما يمثّله المسيح من قيم وأخلاق ومتطلّبات، نكون قد حقّقنا الهدف. والمعلوم أنّ هذه الطريق ليست بسهلة لأنّ المسيح يطلب منّا الكمال والقداسة "فكونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ هو كامل" (متّى 5: 8). فالتوق المتصاعد نحو الكمال هو الذي ينبغي أن نطمح إليه لأنّه من الصعب أن يصل المرء إليه! على كلٍّ سنحاكم على مقدار المجهود الذي بذلناه في محاولاتنا المتكرّرة... فإذا وضعنا هذا القصد نصب أعيننا وحاولنا السير لنيله، نكون قد قطعنا أشواطًا كبيرة في الدنوّ من القداسة ومستلزمات الحياة الروحيّة التي تفرضها. أمّا الوسيلة التي يومئ إليها المسيح فهي أن نعود فنصبح كالأولاد "الحقّ أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (متّى 18: 3)، إذًا الطفولة هي بغاية الأهمّيّة لديه.
ولكن على الرغم من الطاقات الثمينة الدفينة داخل الطفولة، لا أظنّ أنّ الطفولة لا تحمل إلاّ الحسنات فقط، ولا أشارك رأي المفكّر الفرنسيّ "روسّو" عندما قال إنّ الطفل يولد صالحًا والمجتمع يفسده. الطفولة تحمل بذور الشرّ والخطيئة الموروثة عن أبويه وأهله، ألم يقل كاتب الأمثال في العهد القديم "الجهالة مرتبطة بقلب الولد وعصا التأديب تبعدها عنه" (أمثال 22: 15). الطرائق التأديبيّة لا تحبّذ استعمال العصا طبعًا، ولكن العصا هنا تأتي بمعنى الحزم وهو أساس التربية. حزم مصطحب بلين ومحبّة، لا صرامة فائقة ولا دلال زائد. وهذا يحصل إذا تسلّح المربّي "بالإيمان والرحمة والعدل" (متّى 13: 1)، كما يوصي يسوع، وإذا اتّخذ من التطويبات الوارد ذكرها في الفصل الخامس من إنجيل متّى، نبراسًا يضيء له طريقه. فالمسيح في هذه العظة على الجبل يقلب كلّ أساليب المجتمع وريائه رأسًا على عقب، وهذا ما أدركته مريم العذراء في نشيدها عندما قالت "أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين" (لوقا 1: 52).
وتاليًا أن نربّي النشئ، يعني بالضبط أن نبتدئ بتربية أنفسنا، فالقدوة الصالحة هي خير التعليم والتصرّف الجيّد أفصح من العظات. اللَّه وهب الطفل دقّة الملاحظة وشيئًا من الحكمة ليتمكّن من أن يميّز بين الصحيح والخطأ بطريقة فطريّة. فإذا شعر بالكذب في تصرّف المربّي، فقد الثقة لأنّه لا يتأثّر إلاّ بالصدق أي بالمصداقيّة، وهذا التأثير لا يتحقّق إلاّ إذا أنت تحدّثت إلى الولد ودخلت في حوار معه واستمعت إلى أقواله وإن كانت ساذجة ومنحته الأهمّيّة الكافية ورفعت شأنه كإنسان يستحقّ الرعاية. أليست السنون الثلاث الأولى من حياة المرء هي التي تطبع إنسان الغد، على حدّ تعليم الأخصّائيّين بعلم النفس؟ فالعمل في هذه المرحلة هو كالنقش في الحجر وكالكتابة على صفحة بيضاء. فإن أنت نمّيت طاقة الخير الكامنة في الطفل ووجّهته إلى الخير حصدت أثمار الفضيلة والبرّ والتقوى، وأمّا إذا تركته لغرائزه عشّشت أشواك الرذيلة رويدًا رويدًا في قلبه ومن الصعب اقتلاعها في ما بعد، فالمقولة العامّيّة تثبت ذلك "إذا شبّ المرء على شيء شاب عليه".
لا شكّ في أنّ التربية هي دور الأمّ بالأساس، فهي الحضن والدفء والتفاني والمسامحة والمحبّة التي لا حدود لها... وإذا فقد الطفل أمّه فقد الكثير، إلاّ أنّ المرأة القريبة تستطيع أن تملأ الفراغ إذا كانت مؤمنة وطيّبة كالجدّة مثلاً، ولكن علينا ألاّ ننسى أنّ للأب دورًا مهمًّا جدًّا فهو يمثّل السلطة والمحبّة والمرجع في آن. فكيف نُعلّم الطفل الصلاة الربّانيّة "أبانا الذي في السموات..." إن هو لا يعرف مكانة أبيه ولم يتربّ في حنانه ويستفد منه. والتربية هي أيضًا أسرة بكاملها فعندما يشعر الطفل بالأمان والطمأنينة في جوّ عائلة مُحبّة أي أخوة وأخوات متضامنين متّفقين يستطيع أن ينمو ويتفتّح كما تنمو النبتة وتتفتّح الزهرة في جوّ من الدفء والنُّور. وخبرتي علّمتني أنّ الاستفادة من الحوار مع الطفل هي بمقدار ما هو يستفيد من أهله وذويه.
ولذلك بارك المسيح الأولاد وأحبّهم وأعرب عن تلك المحبّة عندما ضمّهم إلى صدره ووضع يديه عليهم (مرقس 10: 16)، وأوصى تاليًا كلّ من يؤمن به بأن يسير على هذه الطريقة في التعاطي مع الأولاد. ولكن مهمّة المربّي صعبة في هذه الأيّام وبخاصّة عندما يصل الطفل إلى مرحلة المراهقة الصعبة، فكيف نوفّق بين الأخلاق السامية الممثّلة بالمسيحيّة والانحطاط الذي نشاهده حولنا؟ فأين تعاليم المسيحيّة ومثلها العليا أمام "الفلتان" الذي نعانيه اليوم؟ أين تلك القيم المركّزة على التضحية ونكران الذات أمام الأنانيّة المتفشّية واللامبالاة المعاصرة؟ كيف نستطيع أن نطبّق إرشادات المسيح في هذه الأجواء حيث سيطرة المادّة وانتشار الدعارة وسلطان المال؟... هذه للأسف العناصر التي تقود العالم وتسيّره... الضعيف منبوذ ومداس والقويّ يتحكّم بالمسكين ويستغلّه والمصالح هي الغاية دائمًا. تعاليم الناصريّ تبدو وكأنّّها منحدرة من كوكب آخر لا علاقة لها بما يجري في الكون!
ولكن لا بدّ من إدانة إلهيّة وعقاب شديد لهؤلاء الأشرار القساة القلوب الذين يستغلّون الأولاد ولا يرحمونهم، الذين يجعلونهم يئنّون تحت وطأة العمل المبكر المضني. وتشير المعطيات والإحصاءات إلى أنّ حوالى 34 في المئة من أطفال لبنان محرومون يعيشون عند عتبة الفقر وأنّ حوالى ثلاثين ألف طفل لم يعرفوا المدرسة وأن 34 ألف طفل عامل على الأقلّ (جريدة السفير 19 تشرين الثاني 2001). والذي هو أتعس من كلّ هذا هو أنّ الطفل معذّب في بعض الأحيان في عائلته، وحتّى أهله يعاملونه بالسوء، والدلائل موجودة نقرأها كلّ يوم في الصحف. هؤلاء الظالمون هم مثل سكّان سادوم وعامورة الوارد ذكرهم في سفر التكوين الفصل 19 الذين أثاروا غضب اللَّه فأمطر عليهم نارًا وكبريتًا. وقد أدانهم المسيح بقوله "من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له أن يعلّق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر!" (متّى 18: 6).
في كلّ سنة تسعى الدول إلى إحياء اليوم العالميّ لحماية الطفل من الإساءة الذي تأسّس منذ اثنتي عشرة سنة. هذا اليوم الذي يُذكّر بالاتّفاقات العالميّة للحفاظ على حقوق الطفل والذي تحتفل به كلّ الدول دليل قاطع على أنّ هناك أناسًا ومؤسّسات يحاولون إنقاذ الأولاد من براثن الشرّ ويقومون بشتّى الوسائل والحملات الإعلاميّة لتوعية المجتمع وحثّه على الرفق بالطفولة المنتهكة. ولكن هل تلتزم الدول بكلّ هذه التوصيات؟ لماذا لا تعتبرها من الأولويّات؟ فالطفل هو مواطن الغد ويستحقّ كلّ الاهتمام.
صلاتنا هذه السنة أمام طفل المغارة من أجل الطفولة التعيسة لكي يحرّرها اللَّه من أقمطة البؤس والشقاء وسوء المعاملة وينتشلها من ظلمة القبر المدلهمّة فتغمر بنور القيامة وتخلص من هذا الجحيم.