التجارب لا بدّ منها. الآلام والأفكار والضيقات والأخطار وما إليها. مستحيل ألا يتعرّض المرء للتجارب. ثمّة تجربة فتّاكة نستعيذ بالله عليها. "ولا تدخلْنا في تجربة لكن نجّنا من الشرّير". التجربة الكبرى أن نُسلَّم إلى الشيطان باليأس. فقدان الرجاء يأساً يقتل الإيمان. ومع ذلك أكثر التجارب له، على إيلامه، وجه إيجابي حتى قال آباؤنا: لولا التجارب ما خلُصت نفسٌ. التجربة، بمعنى، ضرورة إيمانية. هي التي تُفسح في المجال للإيمان أن يفعل حيّاً.
كيف ذلك؟
كلُّنا إيمانه كلامي نظري إلى أن تأتيه التجربة. نتكلّم كثيراً. نثرثر الإيمان بيُسرٍ. ولكنْ وحدها التجربة تعطي فرصة للإيمان أن يصير عملاً. سهل على المرء، بشرياً، أن يستسلم لضعفه بإزاء التجربة. قوّة التجربة تكسِر وإلحاح التجربة يضني. يستسلم المرء ليرتاح أو ظنّاً منه أنّه بالاستسلام يرتاح. مثل هذه الراحة يُتعب لأنّ الاستسلام يُضعف النفس. ومِن ضَعْف النفس يتولّد شعور عميق بالخَدَر والفراغ. التجربة لدى أكثر الناس، في فهمهم، في وجدانهم، لعنة. هذا بشريّاً. أما إلهيّاً فالرؤية تختلف. تأتي التجربة فتكون النعمة الإلهية على الأبواب. التجربة مؤشّر بقرب حلول النعمة. موقفنا يحدِّد الآتي. نربح النعمة أو نخسرها. التجربة دائماً أكبر منا. تستنفد طاقتنا. المهم أن نجابهها بصدق، بأمانة. إذا ما كنّا لنستحليها فلا جدوى من مواجهتها. إذا ما كنّا لنستحلي الزنى أو القنية، أو مِلْنا، في قرارة نفوسنا، إلى الثرثرة والشراهة فمعركتنا خاسرة سلفاً. الأهمّ أولاً أن تعرف نفسك. ثمّ ثانياً أن تمجّ ما أنت مجرَّب به. ثمّ ثالثاً أن تقاوم وِسْعَك. لا همّ أن تكون قاصراً وضعيفاً. أنت لا تذوق النصرة لأنّك قادر ولا لأنّك قويّ. تذوق النصرة لأنّك مستقيم القلب. استقامتك هي تستدعي النعمة الإلهية فتصير قادراً وتسكن قوّةُ الله في ضعفك. بشريّاً تنظر حجم التجربة فتخور. أما ما أنت مدعو إليه فأن تقاوِم بما أُوتيت. فإذا كدت تغرق وصرخت ربّك: "يا ربّ أعنّي"، فإنّه في لحظة يمدّ يده وينتشلك. هذه اللحظة بالذات، لحظة الضعف الأقصى، متى اقترنت بالثقة بالله، بيسوع، برحمته، إيماناً به، تكون عينُها لحظةَ البَرَكَة. تعرف نفسك في حجم قصورك ومع ذلك تتخطّى ذاتك بالرجاء. تَقبل أن تكون في العتمة الحالكة ولا تيأس فينبلج الفجر فيك من حيث لا تدري. نور النعمة يشقّ ظلمتك ويملأك ضياء. ساعتذاك تصير مؤمناً. يسوع يصير لديك إلهاً حيّاً. قبل ذلك إيمانك مشروع إيمان ويسوعك حلم. في موقفك من التجربة، إذاً، تكمن حقيقة الحضرة الإلهية.
ألا اعلم أنّ التجربة هي الصليب اليومي الذي يأتيك لا بخبرة الموت وحسب بل بخبرة القيامة أيضاً. التجربة إيذان بأنّ يسوع آت في حدود الطاقة، في لحظة حاسمة. أنت لا تعرفها. هو يعرفها. فقط تثق به فيأتيك. تكاد أن تختنق؟ لا تخف لن تختنق! هذه مجرّد تجربة وليست حقيقة. التجربة، شيطانياً، تلعب على الوهم والإيهام. يسوع آتيك في نهاية المطاف. يحضرك في كل حين، لكنّه يأتيك معيناً في ملء الزمن، زمانك. لا تستسلمْ للخوف. أن تخاف أمْرٌ من اللحم والدم ولست مطالَباً بألا تخاف. لا تستطيع. فقط أنت مطالَب بعدم الاستسلام له. فإن تخطّيت الخوف خطوة واحدة استكانت نفسك. صرتَ في سلام. أنت مشروع إله ابن إله. هذه نعمة منه. أنت تلقّى بثباتك، بثقتك به، بتخطّيك لخوفك. قاوم إلى المنتهى. والمنتهى أن تنتظر إلى أن يأتيك المعلِّم معزِّياً. "أنا بائس وحزين. لكن خلاص وجهك يعضدني... الربّ يسمع البائسين ولا يزدري معتقَليه... الله يخلِّص صهيون ويبني مدائن يهوذا فيسكن الناس هناك ويرثونها" (المز 68). هو الملكوت قِبْلتُنا. هناك يشاء الربّ الإله أن يسكن الناس ويرثوا.
كل شيء، في الحقيقة، يأتيك كتجربة إلى أن تُفْرِغَ نفسك من أناك وتملأها ثقة بربّك. جسدك تجربة، فكرك تجربة، عواطفك تجربة. كلّها تدعوك لأن تتملأ من ذاتك. افعل أنت العكس. اتّخذ نفسك في تجاربك مطرحاً لتتّضع، لتعرف حجمك، لتتحسّس ترابيتك. "فقير أنا وفي الشقاء منذ حداثتي. وحين ارتفعت اتّضعت وتحيّرت"، لتُلقي بذاتك بين يديه. "في يديك أستودع روحي". فإنّك كلّما تصاغرت وتتاربت كلّما هيّأت نفسك لأن تكون هيكلاً لربّك.
في غربتك عن نفسك، عن أهوائك، تصير قريباً للذي أتاك غريباً في الأرض. التجربة، في آخر المطاف، ليست فقط ما يأتي عليك، بل ما تأتيه أنت في توقك إلى الحرية الحقّ. اقتحمِ الظلمات التي فيك ولا تخشَ. الذي معك أقوى من الذي عليك. اثبتْ وتشدّدْ واذكر ما قاله السيّد لمرتا: "إذا آمنتِ ترين مجد الله". وكان أن قام لعازر بعدما كان قد أنتن في القبر أربعة أيام. ليس فينا غير النتن إلى أن يأتي الحيّ إلى الأبد ويصرخ فينا: "يا لعازر هلمّ خارجاً". فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم يسوع حُلّوه ودعوه يذهب (يو 11).
الأرشمندريت توما (بيطار) - رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
[b]