مقالات العنف والنضال اللاعنفي....
"موقف إيماني من العنف ضد الظلم، ومن حمل السلاح للدفاع عن النفس أو الطائفة".
مقدمة: موضوع السؤال: الموقف الإيمانيّ من العنف، إذ أن "حمل السلاح" ليس سوى تعبير عن العنف. أما الميادين التي يتناول السؤال احتمال استعمال العنف فيها فهي: مكافحة الظلم، الدفاع عن النفس، الدفاع عن الطائفة.
من هنا إذًا ثلاث نقاط سيتناولها بحثنا على التوالي، ألا وهي:
1- العنف في سبيل الدفاع عن النفس.
2- العنف في سبيل مكافحة الظلم.
العنف في سبيل الدفاع عن الطائفة.
أولاً: العنف في سبيل الدفاع عن النفس.
1- هناك من طبّق، في هذا المضمار، وصية المسيح ومثاله بحرفيتهما إذ فضّل بأن يُقتل على أن يصدّ بالعنف العدوان المسلّط عليه: هناك مثلاً أميران روسيّان بوريس وغليب، قدستهما الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة لانهما قبلا أن يُقتلا دون مقاومة على يد اتباع أخيهما الطامع بالاستئثار بالملك.
2- هذا السلوك يصلح بان يكون إلهاما، اللهمّ إذا كان نابعا لا من الجبن والتخاذل (فقد قال غاندي، وهو اكبر داعية في عصرنا إلى النضال اللاعنفيّ: "حيث لا خيار إلا بين جبن وعنف فأنا أدعو الى العنف..."(1)، بل من التسامح واعتبار حياة الآخر – حتى إذا كان معتديا – أهمّ من حياتنا الذاتية. ولكن يبدو لي انه لا يصحّ اتخاذه ناموسا (والمسيحية تتخطى، كما هو معلوم، كل منظار ناموسيّ). ذلك أن اعتبارات أخرى، وجيهة، قد توحي بسلوك مخالف يتفق هو أيضا مع الوحي الإنجيليّ:
أ- منها أن حياتي لا تقلّ أهمية، في نظر الله، عن حياة المعتدي. إن قتل المعتدي شرّ ولا شكّ (لأنه إنسان على صورة الله، وبالتالي فهو أفضل من عدوانه، لذا ينبغي محاولة إصلاحه لا إزالته من الوجود)، ولكن قد يكون أهون الشرّين أن يموت المعتدي من أن يموت البريء.
ب- إن إفساح المجال أمام المعتدي ليقضي عليّ قد يشجّعه على القيام باعتداءات مماثلة على سواي، وأنا مسؤول عن حماية هؤلاء. فنلاحظ بهذا الصدد أن المسيح، وإن سلّم نفسه دون مقاومة لقاتليه، حرص، في لحظة إلقاء القبض عليه، أن لا يهلك أحد من أتباعه:
"فتقدم يسوع وهو يعلم جميع ما سيحدث له وقال لهم (أي للحراس حاملي المصابيح والمشاعل والسلاح الذين داهموه في بستان الزيتون): "من تطلبون؟" فأجابوه: "يسوع الناصريّ". قال لهم: "أنا هو (...) فإذا كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبوا". فتمت الكلمة التي قالها آنفًا: "لم أدع أحدا من الذين وهبتهم لي يهلك".
(يوحنا 11: 4 – 9)
ويقول غاندي بهذا الصدد:
"... سألني ابني البكر ما الذي كان يقتضي عليه أن يفعله لو شهد الاعتداء الذي أوشك أن يكلّفني الحياة سنة 1909: هل كان عليه أن يدعني أُغتال ويهرب أو أن يلجأ الى القوة المادية ليساعدني. فأجبته أن واجبه كان يقضي عليه في هذه الحال أن يدافع عني ولو اقتضى الأمر استعمال العنف" (2).
ويقول في مكان آخر:
"أحيانا هناك اضطرار الى قتل الإنسان. خذوا مثلاً حالة مجنون ثائر منتضٍ سيفا يزهق به روح كل من يصادفه في طريقه. فلا بدّ، والحالة هذه، من القبض عليه ميتا أو حيا. فمن يتغلّب على الممسوس يكون قد استحق ثناء الجماعة. انهم يشعرون حياله بالامتنان بسبب تأديته لهذه الخدمة"(3).
من هنا أنني قد أحاول استعمال العنف في صدّ المعتدي الذي يبغي قتلي، إنما بطريقة تمنعه من الوصول الى غايته ولكن دون أن تقضي على حياته. وقد يتمّ ذلك عن طريق استخدام إحدى وسائل الرياضات الصراعية كالجيدو أو الأيكيدو. يقول أحد دعاة النضال اللاعنفيّ في أيامنا، جان ماري مولّلر:
"قد يكون سبيل الدفاع عن النفس في هذه الحال لقطة أيكيدو نحيّد بها ونجمّد المعتدي، بسيطرة تامة على عدوانيتنا الذاتية، مقرنين ذلك بمحاولة نصحه بالنظرة والكلام"(4). ويأتي هذا الكاتب على ذكر محاولة الاغتيال التي تعرض لها مارتين لوثر كينغ، المناضل اللاعنفيّ الكبير لتحرير السود في الولايات المتحدة، عندما طعنته، في 20 أيلول 1958، امرأة اتضح فيما بعد أنها كانت مختلّة العقل، فيقول انه من المؤسف أن لا يكون القائد الأسود أو أحد رفاقه قد لجأ، في هذه الحالة، الى تحييد هذه المرأة بواسطة لقطة أيكيدو أو ما شابه ذلك(5).
ثانيا: العنف في سبيل مكافحة الظلم.
1- مكافحة الظلم هي نوع من الدفاع عن النفس. إنما يتخذ هذا الدفاع، في معظم الأحيان، شكلاً جماعيا، إذ هو مناصرة الفئة المظلومة (شعب، أمّة، طبقة...) ضد ظالميها.
2- إنها دفاع عن النفس، لأن الظالمين هم البادئون بالعنف. هذا ما يغيّب، للأسف، في كثير من الأحيان – وتغييبه ليس بالأمر البريء سواء أكان مقصودا أو غير مقصود – عند الحديث عن عنف المظلومين أو عن "الإرهاب" الذي يمارسونه. ولا بدّ من إبداء الأسف الشديد على هذا التغييب المجحف، أيا كان موقفنا من "الإرهاب"، الذي هو، برأيي، أمر لا يدافَع عنه، إنما التركيز عليه دون التعرّض لأسبابه هو من باب التهويش المغرض، وقد قال أحدهم: "إن من شاء أن يزيل البغوض عليه بتجفيف المستنقعات"(6). إن الظالمين، باستئثارهم بالخيرات، يعتدون على حياة المظلومين، يحكمون عليهم بالجوع والمرض والموت المبكّر (في كلّ دقيقتين يموت طفل في العالم من الجوع) والجهل، يفرضون عليهم العذاب والذلّ والهوان والموت البطيء، يدوسون إنسانيتهم ويدمرونها.
"لقد كتب برنانوس (وهو روائي فرنسي كبير معاصر: ك.ب.): "إن ثريا يملك المليون يتصرف، في أعماق صناديقه الحديدية، بحياة عدد من البشر يفوق ذلك الذي يتصرف به أي ملك من الملوك. ولكن قدرته هي كقدرة الأصنام، لا أذنان لها ولا عينان. باستطاعته أن يقتل، هذا كل ما في الأمر، دون حتى أن يدري بأنه يقتل" (يوميات كاهن ريفيّ).
إن هذه القدرة القاتلة تملكها اليوم التجمعات المصرفيّة والحكومات والمؤسسات المالية الدولية التي تتحكّم بالقروض وتملي شروط الاستدانة وتنظّم فيض العملة على كوكبنا. ولكن، خلافا لما كان يعتقده برنانوس، فإن مسؤوليها يعرفون انهم يجوّعون ويقتلون. "بدون أذنين وعينين"؟ كلا. انهم، برويّة، يختارون أن لا يروا. أن ضحاياهم اكثر عددا من ضحايا الإرهابيين"(7).
وهاك بعض الوقائع بهذا الصدد:
• إن 22% من سكان الأرض حاليا – وهم سكان البلاد الصناعية – يملكون 80% من موارد الأرض، في حين أن 1200 مليونا من البشر يعانون من سؤ التغذية و600 مليونا يعانون من الجوع(8)، وفي حين أن 15 مليونا من الأطفال يموتون كل سنة من سؤ التغذية ومن الأمراض الناتجة عنها(9).
• في هايتي، في عهد ديكتاتورية جان كلود دوفاليبه الموروثة عن أبيه، كانت 3800 عائلة تستأثر بـ80% من موارد البلد، في حين أن 87% من الأولاد كانوا يعانون من سؤ التغذية، وفي حين أن نسبة الأمية بلغت 82% (10).
• في منطقة الشمال الشرقي من البرازيل Nordeste، يستأثر 5% من السكان بنسبة 95% من الأراضي، في حين انه، في بعض مناطق هذه المقاطعة، وبشهادة حكام هذه المناطق، يموت 45% من الأطفال من جراء سؤ التغذية، قبل أن يبلغوا نهاية السنة الأولى من عمرهم (11).
• في السلفادور، يستأثر 0.7% من الملاكين بـ40% من الأراضي وأفضلها، في حين أن 60% من أولاد الفلاحين يموتون في السنة الأولى من عمرهم (12).
3- أمام هذا الموضوع، وبغضّ النظر عن درجة الظلم التي نعاني منها شخصيا، فنحن، كمسيحيين، موضوعون أمام وصيتين تتناقضان في الظاهر (ولكنه بالفعل توتّر خلاّق): فمن جهة، وصية محبة الأعداء، ومن جهة ثانية، وصية نصرة المظلومين، الذين وحّد المسيح نفسه بهم ("كل ما فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الصغار، فبي فعلتموه... كل ما لم تفعلوه بأحد اخوتي هؤلاء الصغار، فبي لم تفعلوه" متى 25) (14).
أ- فنصرة المظلومين تطالبنا بالنضال من اجل رفع الظلم عنهم. أقول تطالبنا بالنضال، إذ لا يمكن أن نكتفي بإعلان مبادئ، ولو سامية، بل ينبغي أن نتصدّى للظالمين، أن نضغط عليهم، أن نزحزحهم من مواقع التسلط والاستئثار التي يتشبّثون بها، أن نجتهد في تغيير الأوضاع لصالح المظلومين. من اجل ذلك لا بدّ من خوض صراع (15). فالمناداة بالسلام كذب وزيف إذا بقي المجتمع منقسما بين ذئاب وخراف، إذ لا مجال للسلام بين الذئب والخروف إذا بقي الأول في موقع الذئبية (راجع حكمة يشوع ابن سيراخ 13: 18 – 19)
"فمثلا، بعد أن أخذ غاندي علما بإصرار الحكومة البريطانية على عدم التجاوب مع مطالب مؤتمر الهند، لم يتردّد عن التصريح في الإنذار الذي وجهه الى نائب الملك، قبل المباشرة بحملة العصيان المدنيّ سنة 1930: "لم تعد المسألة سوى مسألة مواجهة بين قوتين، مواجهة لم يعد للمحاكمة المنطقية فيها من مكان. إن بريطانيا، ولو وُجهت بالبراهين المقنعة، سوف تدافع بكل الوسائل عن تجارتها ومصالحها. يترتب إذا على الهند أن تصنع بنفسها القدرة التي من شأنها أن تنقذها من براثن الموت".
ب- وفي بداية مقاطعة اوتوبيسات مونتغومري (وهي حملة خاضها مارتن لوثر كينع سنة 1955 لحمل شركات الاوتوبيسات هذه على رفع التمييز العنصري الذي كانت تمارسه بين الركاب البيض والسود (ك.ب.))، كان مارتن لوثر كينع يعتقد، وقد كان في ذلك الحين قسيسا في أول شبابه، أن السود بوسعهم أن يقنعوا البيض بسرعة بصواب قضيتهم، ولكنه، أمام فشل المفاوضات الأولى، سرعان ما تخلى عن هذا الأمل الذي لم يكن سوى وهم. فكتب: "كنت قد توقعت أن أصحاب الامتيازات سوف يتخلون عن امتيازاتهم لمجرد أن يُطلب منهم ذلك. وقد اتخذت عبرة من هذا الأمل (الكاذب). أدركت أخيرا أن لا أحدا يتخلى عن امتيازاته دون مقاومة" (16).
ولكن كيف يكون هذا الصراع الواجب ضد الظلم؟ هنا تأتي وصية محبة الأعداء لتحذّرنا من خطر التحوّل، في مكافحة الظالمين، الى نفس مواقف هؤلاء. فنزعتنا الغريزية، في مقاومة الذين يتنكّرون لإنسانية الآخرين، أن نتنكّر بدورنا لإنسانيتهم هم، أن نعتبرهم مجرد حيوانات مفترسة ينبغي القضاء عليها أو حشرات سامة لا بدّ من سحقها. ولكننا، إذا انقدنا الى هذه النزعة، نكون قد جاريناهم من حيث لا ندري. إننا ندمّر إنسانيتنا بتنكّرنا لإنسانيتهم، فننفسد على منوالهم، ندعهم يتغلبون علينا في العمق إذ ننحاز الى مواقفهم (هذا ما يلقي ضوءًا على وصية الرسول بولس: "لا تدع الشرّ يقهرك، بل كن بالخير للشرّ قاهرا" (رومية 12: 21). وهذا ما يعطي، عاجلاً أم آجلاً، ثمارا سامة تظهر مستقبلاً في نمط تعاملنا مع الناس الذين ناضلنا لتحريرهم، فنطغى ونتسلط عليهم، إنما في ظل شعارات أخرى ومبررات أخرى قد تكون اشدّ فتكا من الاستغلال والطغيان السافرين، لان الطغيان فيها يتستّر باشرف المبادئ في حين أن التصدّي له ينعت بالرجعية والخيانة، مما يبرّر سحقه بمختلف الوسائل (17). هذا ما يحصل غالبا في حال استعمال النضال العنفيّ في مكافحة الظلم، لان العنف، ولو استخدم في سبيل الخير والعدل، له منطقه الخاص، وهو منطق تقديس القوة بحدّ ذاتها والغلبة من حيث هي، منطق "إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب" (علما بان الذئب افضل بكثير من الإنسان من حيث تعامله مع أبناء جنسه، كما يثبت علم السلوك الحيوانيّ Ethologie المعاصر (18) )، منطق لا يقيم وزنا للسؤال التالي: ما الفائدة من إزاحة "الذئاب" من الحكم إذا كان ذلك لاستبدالهم "بذئاب" آخرين أشدّ فتكا منهم لانهم "يتسترون بثياب الحملان"؟
ج- من هنا أهمية النضال اللاعنفيّ الذي أطلقه يسوع وأحياه غاندي في عصرنا، وهو الآن حركة قوية متعاظمة، خاصة بعد أن اتضحت الأمور التالية:
• الطبيعة المدمرة للأسلحة الحديثة وفتكها المتزايد بالمدنيين بما فيهم النساء والأطفال. فقد أظهرت دراسة وضعتها الاونيسيف انه، في حين أن نسبة القتلى المدنيين كانت 5% في الحرب العالمية الأولى، فقد قفزت الى 50% في الحرب العالمية الثانية وبلغت 90% في الحرب اللبنانية (19).
• الطابع العالمي لكل نزاع، وبالتالي خطر إثارته لحرب نووية تقضي على البشرية برمتها (في العالم حاليا حوالي 50 ألف رأس نووي، مما يمثل 4 أطنان من الـ ت.ن.ت. لكل واحد من سكان الأرض (20)، وبعبارة أخرى "إن طاقة الجنون النووي اكبر بخمسة آلاف مرة من مجموع كل ما ألقي في الحرب العالمية الثانية، وأقوى من مليون قنبلة مماثلة لقنبلة هيروشيما. وقياسا على ضحايا هيروشيما فان سلاحنا النووي (...) يكفي لقتل مائة وأربعين مليار إنسان. وهذا ما يعادل سكان 35 كوكبا مثل أرضنا..." (21))، خاصة وان انتشار الأسلحة النووية في تزايد، وقد كتب فرنسوا ميتران بهذا الصدد، في مذكرات له نشرت سنة 1978:
"سنة 1990، ستكون خمسون دولة حائزة على القنبلة الذرية. عند ذاك سوف يكفي أن يشعل الأصغر أو الأقوى أو الأكثر جنونا، الفتيل في مكان ما، فتتفجّر الأرض..." (22).
والنضال اللاعنفي أثبت فعاليته: فقد أدى سنة 1947 الى تحرير الهند من استعمار بريطاني دام ثلاثة قرون، ولكنه أدى أيضا، في مطلع العام 1986، الى الإطاحة بطاغية هايتي، دوفالييه، وبطاغية الفيليبين، ماركوس (23).
هذا النوع من النضال يضغط على الخصم بشتى الوسائل (مقاطعة الحكم الجائر ورفض التعاون معه في شتى الميادين، العصيان المدني بما فيه الرفض الجماعي لدفع الضرائب، الإضراب، المسيرات والتظاهرات السلمية، الإقبال على الاعتقال الى حدّ إملاء السجون...)، إنما دون المسّ بحياة الخصم ومع الحدّ، قدر الإمكان، من التعرّض لمصالحه الحيوية. بذلك يتحاشى هذا النضال خطر "الذئبية" التي نحن بصددها، فيعمل على بناء مستقبل شريف بطرق شريفة ومستقبل إنساني بطرق تقرّها الإنسانية، ويسعى الى المصالحة النهائية بين البشر بأقرب ما يمكن من الأساليب الى تلك المصالحة المرجوّة(24). كما انه يعطّل الدوّامة التي يغذيها النضال العنفيّ، ألا وهي: عنف الظالمين المؤسسي (أي المسجّل في الهيكليات الاجتماعية نفسها) - العنف الثوري - عنف الظالمين القمعي جوابا على العنف الثوري (وغالبا ما يكون هذا العنف القمعي هو الأقوى بسبب الوسائل التي يملكها الظالمون: فقد قمعت مثلاً حركة تحرر السود في الولايات المتحدة عندما جنحت الى العنف).
ذلك أن النضال اللاعنفي ينزع من الظالمين ذريعتهم: فمثلاً، في كثير من الحالات، يرفض الشرطيون أو الجنود استعمال العنف ضد المتظاهرين السلميين: هذا ما حصل في 3 أيار 1963، أثناء حملة نظّمها مارتن لوثر كينغ في برمنغهام في الولايات المتحدة. وفي حال استعمال العنف القمعي ضد هؤلاء من قبل السلطات، كما حصل في المسيرة التي نظمها أتباع غاندي على مستودعات الملح في مصنع درسانا (وقد سقط حينذاك العديد من الجرحى وقتيلان على الأقل، وكان ذلك سنة 1930)، أو كما حصل في حوادث شريفيل، في أفريقيا الجنوبية، في 21 آذار 1960، حين فتح البوليس النار على تظاهرة سلمية نظمها المؤتمر الأفريقي ضد الحكم العنصري الأبيض، فسقط 69 قتيلاً والعديد من الجرحى، بينهم الكثير من الأطفال والنساء، فإن عنف السلطات يثير استنكارا عارما في العالم كلّه ينقلب على الظالمين (25) ويحدث شقاقا في صفوف الفئة التي ينتمون إليها، في حين أن العنف الموجّه الى الخصم يضطر حتى المعتدلين المتواجدين في معسكره الى رصّ الصفوف مع فئتهم.
د- أما في حين استحالة اللجؤ الى النضال اللاعنفيّ (إذا ثبتت هذه الاستحالة)، فقد يكون لا بدّ من استعمال العنف لتفادي شرّ أعظم (فالنضال اللاعنفيّ يبقى الأفضل، شرط أن يكون ممكنًا) (26).
إنما يطلب إنجيليًا في هذه الحال، على ما اعتقد:
• الامتناع عن أي تمجيد للعنف، بل الإعلان الصريح بأنه شرّ، قد يكون لا بدّ منه في أحوال معيّنة، ولكنه يبقى شرًا على كل حال. من هذا الباب يأتي ما ذكره المطران جورج خضر من أن:
"القديس باسيليوس الكبير (...) رفض إعلان العسكر شهداء وقضى أن يمنع من سفك دمًا بالحرب ثلاث سنين من مناولة جسد الرب" (27).
.. أن لا يقترن العنف بالكراهية.
... أن يُحصَر استعماله ضمن حدود صارمة: هكذا روى الأب إرنستو كاردينال، وزير الثقافة في حكومة نيكاراغوا الحالية، كيف اضطر ثوار مسيحيون، أثناء معركة تحرير بلادهم من حكم الطاغية سوموزا، الى مهاجمة ثكنة للحرس الوطني المشهور بشراسته، وكيف دخل أحدهم الى الثكنة بعد المعركة فلم يجد فيها سوى جنود قتلى وجرحى، فهمّ بإشعال النار في المبنى لتتويج الانتصار ولكنه لم يفعل حفاظًا على حياة الجرحى (28).
.... أن تستبعد كل رغبة في التشفّي والانتقام. وقد كانت ثورة شعب نيكاراغوا – بسبب من الإلهام المسيحي الذي رافقها – نموذجية في هذا المضمار. فبعد انتصار الثورة إثر حرب أهلية طاحنة لم يتورع فيها الطاغية عن تدمير مدن بلاده بالغارات الجوية، محاولة منه لإنقاذ حكمه المتداعي، وعن تعذيب العديد من مناوئيه وقتلهم، همّ جمهور هائج بقتل بعض أفراد الحرس السوموزيّ المكروه. فتصدّى له توماس بورخيه، أحد القادة التاريخيين لجهة التحرير الوطني الساندينية، ووزير الداخلية في الحكومة الجديدة، ذاك الذي كان الحكم البائد قد أمعن في سجنه وتعذيبه، وخطب في الجمهور قائلاً: "إن ثورة نيكاراغوا لا تريد موت الخطاة، إنما تريد موت الخطيئة وحسب". وأضاف هذه الجملة المذهلة التي خرجت على منطق الثورات المألوف: "انتقامنا سوف يكون الغفران". كان ذلك في 12 آب 1979. وفي الواحد والعشرين من الشهر نفسه تكرّست هذه الجملة في هيكليّات الدولة إذ ألغى العهد الجديد عقوبة الإعدام (29).
ثالثّا: العنف في سبيل الدفاع عن الطائفة:
ينبغي بادئ ذي بدء توضيح ما المقصود بـ"الدفاع عن الطائفة":
1- فإذا كان المقصود بذلك الدفاع عن هيمنة الطائفة وتفوّقها على حساب الطوائف الأخرى، فإن هذا الهدف مردود إنجيليًا، إذ الكبير، في المنظور الإنجيلي، هو الذي يخدم، وبذلك يحيي وينمّي الآخرين، لا الذي يتسلّط ويسيطر. هذا يقتدي بالله – كما كشفه لنا يسوع المسيح – هذا الإله الذي، وهو الحيّ، همّه أن يمدّ الخليقة بحياته، ولكنه يحتجب عنها ويتوارى لئلا يسحقها بكثافة حضوره وقوة اقتداره.
2- أما إذا كان المقصود بـ"الدفاع عن الطائفة" دفاعًا عن حقوق إنسانية أساسية مهدورة، وكفاحًا ضد ظلم فادح لاحق بالطائفة، فينطبق على هذا الوضع ما قلناه عن الكفاح ضد الظلم وعن أفضلية استعمال النضال الّلاعنفيّ في سبيله. مع إبداء الملاحظتين التاليتين:
أ- إن النضال العنفيّ، إذا استخدم في حرب بين الطوائف، مرشّح لان يكون أكثر شراسة، وبالتالي أكثر إفسادًا، منه في أي حرب أخرى (هذا ما يثبته تاريخ الحروب الدينية وما تؤكده وقائع الحرب اللبنانية الحاضرة). وذلك، أولاً لأن الله نفسه يتخذ، في هذه الحال، ذريعة لتبرير أبشع النزوات، بحيث يُسمح لهذه أن تنطلق من عقالاتها دون أي رادع فتؤدّي الى أقبح الممارسات (من مجازر جماعية ونهب وتعذيب وتشويه ...) متسترة وراء التغطية الإلهية التي اتخذتها (سواًء أكان هذا التستر مقصودًا أو غير مقصود، واعيًا أو غير واعٍ). في رواية كتبها الأديب الفرنسي الكبير موريس جنفوا عن الحرب الدينية في فرنسا في القرن السادس عشر، يصوّر أحد الأبطال، غوتييه، أحوال هذه الحرب، فيستفظع فيها، وهو العسكري المتمرس على القتال الشريف، تلك الشراسة التي تتنكر لشرائع الناس وارادة الله بآن. يصف الكاتب معاناة هذه الشخصية بعبارات لا يبدو لنا مدلولها غريبًا عما حفل به القتال الطائفي في لبنان من مخازٍ:
"... كان يكره هذه الحرب، وتتراءى له أيام ظلمة ينتصر فيها الفريسيون والأشرار، ويُسخر فيها من القدسات إذ لا تعود هذه نورًا في أعماق القلوب، بل كلمات تجديف تغطي بالحقيقة الكبرياء والجشع والفسق ووحشية أسوأ حيوان يتواجد تحت سماء الله: الإنسان الذي تنكّر لروحه" (30).
ومن جهة أخرى، فإن النزعة الوثنية الى الاستئثار بالله تعود، في تلك الظروف، الى البروز وراء التوحيد الكلاميّ، مما يؤدي الى تصوّر الطائفة الذاتية على أنها معسكر الله، وبالتالي على أنها الخير كل الخير، وعلى أن كل ما تفعله إنما هو صحيح ومبرَّر، في حين أن الطائفة الخصمة هي معسكر الشيطان، هي الشر كله، بحيث أن كلّ شيء يصبح جائزًا في سبيل مكافحتها وتدميرها.
ب- إن الاكتفاء بالمطالبة بحقوق الطائفة، ولو كانت هذه الحقوق صحيحة ومشروعة، يؤدي، في آخر المطاف، الى تناسي حقوق الآخرين ووحدة الوطن، ويؤول، في الأمد الطويل، الى استبدال ظلم بظلم وهيمنة بهيمنة. من هنا إن المطالبة يجب أن تتركز منذ البدء على تساوي الجميع في الحقوق والواجبات، وأن تستنفر، في هذا السبيل، جميع المخلصين، سواء انتموا الى الطائفة الظالمة أو الى الطائفة المظلومة. ومن أجل أن يتمّ هذا التلاقي، لا بدّ للمدافعين عن حقوق الطائفة المظلومة أن يتصدّوا بشدّة لكلّ ظلم قد يرتكبه أبناء طائفتهم بحق الآخرين – بدل أن يبرروه بالظلم الذي يمارسه الفريق الآخر – ولكل محاولة للهيمنة قد يقدمون عليها – عوض أن يبرروها بهيمنة الطرف الآخر. المهم أن يبقى أفق النضال وموجّهه، تصوّر الوطن الواحد الذي يتساوى جميع أبنائه في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، الى أية فئة انتموا، دون أن يكون لأحدهم امتياز على الآخر إلا من حيث إخلاصه للمصلحة العامة وما يتمتع به من كفاءة لخدمتها.