القديس ثيوفان الحبيس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
هذه الرسالة موجّهة إلى فتاة شابة تبحث عن معنى لحياتها والأفكار التي يطرحها القديس تنطبق كثيراً على شبابنا اليوم وتهمهم.
ماذا جرى لكِ؟ أي نوع من الأسئلة هو هذه: "لا أعرف ماذا أفعل بحياتي. أعلى الإنسان أن يفعل شيئاً؟ أعلى الإنسان أن يضع لنفسه هدفاً؟" فيما كنت أقرأ، لم أستطع أن أكتشف مصدر هذه الأفكار الغريبة. أما كنتِ قد قررتِ كل هذه الأمور عندما عبّرتِ عن الرغبة في الوصول إلى تلك الكرامة العليا التي حدّدها الله للإنسان؟ وما الذي نناقشه، أنتِ وأنا، غير ذلك؟ كيف إذاً نشأت كل هذه الأمور؟ أنا أتخيّل أنّ هناك تحرريون بين معارفك، أو أنك في مناسبة ما التقيتِ مجموعة من الأشخاص الذين ينشرون "كلماتهم الحكيمة". إنهم عادةً يهذون بهذه الطريقة. وتتردد على لسانهم وبدون توقف الكلمات: "خير الجنس البشري"، "خير الشعب" وغيرها. والآن أنتِ، على الأرجح، استمعتِ للكثير من هذه الأفكار الرفيعة، فاستسلمتِ لها، واستدرتِ لتنظري إلى حياتك الحاضرة فاكتشفتِ بندم أنكِ تحيين حياة كسل وخمول في عائلتك وبين أقربائك وبدون هدف. واحسرتاه! كيف أن أحداً لم يفتح عينيك بعد؟
إذا كان تقديري صحيحاً، فعليكِ أن تخجلي. لماذا لم تخبريني عن هذا، مع أنك أعطيتِ كلمتك بالكتابة لي عن شيء بصراحة؟ ولكن سواء كان الأمر هكذا أم لا، لا أستطيع أن أترك مشاكلك بلا حل. كل مراسلاتنا تخدم كحلّ متكامل لها، لكني الآن سوف أعبّر فقط عن فكرة قصيرة وعامة، حتى تري أن حياتك كما عشتِها وتعيشينها إلى الآن، هي حياة حقيقية، ولا حاجة لتغيير أي شيء فيها.
بالتأكيد، يجب أن يعرف الإنسان هدف الحياة. لكن هل هذا صعب؟ ألم يُحدَّد هذا مُسبَقاً؟ الوضع بشكل عام هو هذا: بما أنه يوجد حياة بعد الموت، إذاً، هدف كل حياتنا الأرضية هذه، يجب أن يكون، بدون استثناء، ليس هنا إنما هناك. كل واحد يعرف أن هذه هي الحالة، وليس هناك أكثر من هذا للمناقشة، مع أن بالممارسة قليلون جداً يتذكرون هذا. لكن ضعي لنفسِكِ قانوناً للحياة، واسعي بكل قوتك لتحقيق هذا الهدف، وسوف ترين بنفسك أي ضوء سوف يفيض منه على حياتك الحاضرة على الأرض وعلى كلِ ما تعملين. أولاً سوف تُكشَف القناعة بأن كل شيء هنا هو وسيلة للحياة الثانية. هناك ناموس يتعلّق بالوسيلة: استعمليها وبطريقة تؤدي إلى الهدف ولا تحيدي عنه أو تعوّقيه. هذا إذاً هو الجواب على مسألة عدم معرفة ما تفعلين بحياتِك. ركّزي نظرَكِ على السماوات ووجّهي كل خطوة من حياتك لتكون خطوة في هذا الاتجاه. يبدو لي أنّ كل شيء بسيط، ومع هذا فهو كثير الضغط.
أنتِ تسألين: "أيجب أن يفعل الإنسان شيئاً ما؟" طبعاً يجب. اصنعي أي شيء مما ينجح في دائرة أصدقائك ومحيطك وآمني أن هذا هو عملك الحقيقي، وسوف يكون. لن يكون مطلوباً منكِ أكثر من ذلك. ما يعتقد به التحرريون من أن على الإنسان "أن يضع علامته على الإنسانية"، أي أن يقوم بمهمات عظيمة وذات صدى كبير، هو اعتقاد خاطئ. إنه اعتقاد خاطئ بشكل كبير، حتى لو كان من أجل الملكوت. يكفي فقط أن نعمل كل شيء بحسب وصايا الله. ماذا بالتحديد؟ لا شيء محدد، فقط هذه الأشياء التي تظهر للإنسان في ظروف حياته، هذه الأشياء التي تفرضها الحوادث اليومية في حياتنا. لنأخذ مثلاً أن متسولاً أتى إليكِ. إن الله هو الذي أرسله. بالطبع الله أرسل المتسول إليكِ راغباً منكِ أن تعامليه بالطريقة التي ترضيه، وهو يراقبكِ ليرى ما تفعلين بالواقع. سوف يكون راضياً إذا ساعدتِ. فهل سوف تساعدين؟ إذا قمتِ بما هو مرضي لله، تكونين قد أنجزتِ خطوة نحو الهدف الأعلى أي ميراث الملكوت. عمّمي هذه الحادثة وسوف تجدين أن في كل وضع وعند كل لقاء، يجب على الإنسان أن يعمل ما يريده الله منه، ونحن نعلم حقاً ما يريده من الوصايا التي أعطانا. إذا احتاج إنسان إلى مساعدة فساعديه. إذا أساء إليكِ أحد فسامحيه. إذا أنتِ أسأتِ إلى أحد فأسرعي إلى طلب المغفرة وصنع السلام. إذا مدحَكِ أحد فلا تفتخري. إذا وبّخَكِ أحد فلا تغضبي. إذا أتى وقت الصلاة فصلّي. أن تعملي هو أن تعمّلي.
إذا أخذتِ كل هذا بعين الاعتبار، تكونين قد بدأتِ بالعمل في كل الأوضاع حتى تأتي تصرفاتك، التي تنفذينها بدون انحراف عن الوصايا، مرضية لله، وعندها تنحلّ كل المشاكل المتعلّقة بحياتِك كلياً بشكل مرضٍ. الهدف هو الحياة المبارَكة بعد القبر. الوسائل هي الأعمال بحسب الوصايا: الأعمال المطلوبة من كل شيء يمر في حياتِك. يبدو لي أن هذا واضح جداً وبسيط وليس من سبب لديكِ لتعذّبي نفسَك بمسائل صعبة. يجب أن تُخرجي من رأسِك كل المشاريع المتعلّقة بالعمل الإنساني "الكثير النفع" الذي ينظّر حوله التحرريون. عندئذ سوف تتركّز حياتك إذا وضعتِها في إطار سلامي ووجَّهتِها بدون اضطراب نحو الهدف الأساسي. تذكّري أن الرب لا ينسى كأس ماء بارد أُعطي لعطشان.
سوف تقولين: "لكن كل الأمور متشابهة، على الإنسان أن يختار ويحدّد طريقة حياة!". ولكن كيف لكِ أن تحدّديها؟ عندما نبدأ بالتفكير بها يكبر شكّنا. من الأفضل والأسلم أن نقبل بطاعة وشكر ومحبة، الاتجاه الذي يكشفه لنا الله في مجرى حياتنا. لنأخذ وضعاً يهمك. أنتِ الآن تحت سقف والديك في أمان وراحة. ولكن افعلي كل ما عليك فعله بضمير حي. تقولين: "لكن كل الأمور متشابهة. تصوّر، لا يستطيع الإنسان أن يبقى كذلك إلى الأبد. في آخر الأمر، حياته الشخصيّة يجب أن تبدأ. على أي درجة من البلاء هذا يحدث؟ وكيف للإنسان أن يتلافى التفكير فيه؟" حسناً، هذه هي أفضل فكرة في كل هذا الخط. ضعي نفسك في يدي الله وصلّي كي يقودك إلى ما هو الأفضل عنده، حتى لا تتعرقل حصتك من الحياة، بل بالأحرى تساعدك على الوصول إلى الحياة المباركة بعد القبر بدون أن تحلمي بقَدَر لامع. وعندما تضبطين نفسك هكذا، انتظري بصبر وفي آخر المطاف يعطيكِ الرب التعليمات. وهو سوف يرشدكِ من خلال ترابط الظروف وعِبرَ إرادة أهلِك. وإذ تثبتين في هذه الأفكار وترتاحين بالله، اسلكي بدون أن تبني مشاريع فارغة واعمَلي هذه الأشياء التي تتطلبها منك علاقتك بأهلِك وإخوتِك وأخواتك وكل أقربائك وكل البشر. لكن لا تفكّري، ولا بأي طريقة، بأن هذه الحياة فارغة. كلّ ما تفعلينه بحسب هذا القانون سوف يكون عملاً حقيقياً، وإذا تصرّفتِ على أساس أن هذه هي طريقة صنع الأمور بحسب الوصايا، وأن الله يريدها هكذا، سوف يكون عملك مرضياً لله. وعلى منوال مماثل، عامِلي كل شيء مهما كان صغيراً.
يبدو أنني الآن قد شرحت كل شيء. سوف أضيف تمنياً بأن تغوصي جيداً إلى أعماق ما كتبتُ، وتتعلميه قلبياً وتكيّفي نفسَك معه. أستطيع أن أتنبأ أنّك سوف تكتسبين سلاماً كاملاً ولن تشوّشك الأفكار من بعدها. "حياتي لا تساوي شيئاً، أنا لا أقوم بشيء نافع"، وغيرها. سوف يبقى عليك فقط أن تمارسي ضبط القلب وإلاّ سوف يثرثر كثيراً بلا معنى. صحيح أنه أن نكون بلا قلب هو أمر سيء إذ حيث لا قلب، أي نوع من الحياة يكون هناك؟ ولكن أيضاً، على الشكل نفسه، يجب أن لا نترك القلب على طريقه. إنه أعمى وبدون توجيه صارم يضيّع خطاه مباشرةً.
فليباركْك الله.
[b]